لا شك أن الترجمة جسر الحوار بين الأمم، بها تتواصل الحضارات وتتناقل الثقافات لتجعل من هذا العالم مترامي الأطراف على اختلاف ثقافاته قرية واحدة متناهية في الصغر، تتحدث لغة واحدة مشتركة لا تفصل بينها حدود جغرافية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية.. وهي مهنة قديمة قدم العمران البشري، ظهرت بين المجتمعات البشرية مع تعدد لغاتها وتنوع ثقافاتها وحضاراتها، وهي بذلك أمانة تقع على كاهل المشتغل بحقلها الشاسع (المترجم)، وما تتطلبه تلك الأمانة من الصبر والمثابرة على السير في طريقها والمزيد من المهارة اللغوية والخبرة الفنية والأمانة العلمية.. ومجال الترجمة أحد المجالات الذي يسعى للالتحاق به خريجو كليات اللغات والترجمة وأقسامها ممن يطمحون في العمل في كبرى المؤسسات والشركات المهتمة بشؤون الترجمة وأبحاث اللغة.
ومن هنا يبدأ مشوار المترجم في صنعة الترجمة، من حيث يقف خريجًا لإحدى كليات اللغات والترجمة وأقسامها في بداية طريقه المهني يتحسس أي المجالات المتاحة يسلك؛ فيجد أمامه فرصًا مختلفة ومتعددة للعمل في مجالات مختلفة، ويظن أنه يجيد عمل كل ما له علاقة باللغة، ولكنه في واقع الأمر لا يتقنها تمام الإتقان، وتكون أمامه خطوتان كلتاهما أهم من الأخرى؛
الأولى: اختيار العمل الذي يريده.
الثانية: تأهيل نفسه تأهيلًا جيدًا للاستمرار في هذا العمل وتحقيق النجاح فيه.
والترجمة عمل شاق يتطلب مجهودًا كبيرًا ممن يختارها مهنة يمتهنها في حياته؛ فهي تتطلب قدرة ذهنية للتعرف على اللغة المصدر (اللغة المنقول منها) وفك تراكيبها مع القدرة على التعبير باللغة الهدف (اللغة المنقول إليها) والوصول إلى مستوى يشعر معه المتلقي أو القارئ أن النص لم يكتب بغير لغته. (أي أن المستوى المطلوب في الترجمة من الإتقان يتحصل عليه عند الوصول لدرجة لا يشعر فيها القارئ أنه أمام نص مترجم بل ولا يساوره أدنى شك في أن النص لم يكتب بغير لغته، ولكم نقرأ كتبًا نرى من ركاكة أسلوبها ما يدل على ضعف مستوى المترجم وكأنه يصرخ في القارئ قائلاً: "أنا نص مترجَم ولست بنص أصلي"، ناهيك عن ضحالة الأسلوب حتى أنك تتمنى لو أنك لم تقرأ الكتاب وإن كنت في حاجة إلى ترجمة النص الأصلي، إلا أن أسلوب المترجِم ثبَّط من عزيمتك في قراءته)؛ ولذلك فإن العمل في مجال الترجمة ليس بالأمر الهين حيث يتطلب الجد والاجتهاد والتحصيل والقراءة للتعرف على مختلف العلوم والمعارف وغيرها من المهارات والقدرات الخاصة.. هذا فضلاً عن البعد الاجتماعي لهذه المهنة مما يستلزم في كثير من الأحيان الانغلاق على الذات لفترات طويلة والالتزام بمواعيد إنجاز العمل أو تسلمه أو تسليمه أو الانخراط في أكثر من مشروع في آن واحد مما يزيد من تأثير هذا الانغلاق في حياة المترجم الاجتماعية.
وحقيقة الأمر، أن لكل مهنة مشاكلها ومتاعبها ومسؤولياتها، وعلى المرء تأهيل نفسه لما يختاره من المهن.
وإذا كنت قد حددت لنفسك مهنة الترجمة، فاعلم أن مفهوم "الصنعة" أيضًا ينطبق عليها إلى حد كبير، فكلمة "الصنعة" تجمع بين كونها علم له قواعد وأصول ينبغي الالتزام والتقيد بها وبين كونها فن يترك للمترجم الحرية في الاختيار والمفاضلة بين الألفاظ والعبارات والتفنن في إخراج نص جمالي، شأنها في ذلك شأن أي صنعة تحتاج إلى علم ولا تخلو من الفن، كما أنها لا تتم إلا من خلال أدوات، حتى في المهن الحرَفية فهناك النقاش الذي يصنع من بعض الأصباغ والألوان والمونة صورًا جمالية رائعة بقواعد معينة يعرفها أهل الصنعة باستخدام أدوات خاصة في عمله، وذلك النص الذي يأتي إلى المترجم ما هو إلا مجموعة من الألفاظ والنصوص والمترجم هو من يتعهد بالتعرف عليها وتفسيرها ومعالجتها والتعمق في مصطلحاتها ومفرداتها باستخدام أدواته (القواميس والبرامج وغيرها) حتى يخرج من هذا النص الجاف المبهم عبارات رنانة بأسلوب سهل يسير واضح ومحدد وكأنه بذلك يشكل صورة ذهنية جمالية في ذهن القارئ.. ومفهوم "الصنعة" يجمع بين كل هذا، فهو يجمع بين العلم والفن والأدوات.